فصل: ذكر فتح السويداء وربض الرها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر

في هذه السنة في منتصف شعبان توفي الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن علي بن أبي علي المنصور الحاكم الخليفة العلوي بمصر وكان عمره ثلاثًا وثلاثين سنة وكانت خلافته خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وسبعة عشر يومًا وكان له مصر والشام والخطبة له بإفريقية وكان جميل السيرة حسن السياسة منصفًا للرعية إلا أنه مشتغل بلذاته محب للدعة والراحة قد فوض الأمور إلى وزيره أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي لمعرفته بكفايته وأمانته‏.‏

ولما مات ولي بعده ابنه تميم معد ولقب المستنصر بالله ومولده بالقاهرة سنة عشر وأربعمائة وفي أيامه كانت قصة البساسيري وخطب له ببغداد سنة خمسين وأربعمائة‏.‏

وكان الحاكم في دولته بدر بن عبد الله الجمال الملقب بالأفضل أمير الجيوش وكان عادلًا حسن السيرة‏.‏

وفي سنة تسع وسبعين وصل الحسن بن الصباح الإسماعيلي في زي تاجر إلى المستنصر بالله وخاطبه في إقامته الدعوة له بخراسان وبلاد العجم فأذن له في ذلك فعاد ودعا إليه سرًا وقال للمستنصر‏:‏ من إمامي بعدك فقال‏:‏ ابني نزار‏.‏

والإسماعيلية يعتقدون إمامة نزار وسيرد كيف

  ذكر فتح السويداء وربض الرها

في رجب من هذه السنة اجتمع ابن وثاب وابن عطير وجمعا وأمدهما نصر الدولة بن مروان بعسكر كثيف فساروا جميعهم إلى السويداء وكان الروم قد أحدثوا عمارتها في ذلك الوقت واجتمع إليها أهل القرى المجاورة لها فحصرها المسلمون وفتحوها عنوة وقتلوا فيها ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل وغنموا ما فيها وسبوا خلقًا كثيرًا وقصدوا الرها فحصروها وقطعوا الميرة عنها حتى بلغ مكوك الحنطة دينارًا واشتد الأمر فخرج البطريق الذي فيها متخفيًا ولحق بملك الروم وعرفه الحال فسير معه خمسة آلاف فارس فعاد بهم‏.‏

فعرف ابن وثاب ومقدم عساكر نصر الدولة الحال فكمنا لهم فلما قاربوهم خرج الكمين عليهم فقتل من الروم خلق كثير وأسر مثلهم وأسر البطريق وحمل إلى باب الرها وقالوا لمن فيها إما أن تفتحوا البلد لنا وإما قتلنا البطريق والأسرى الذين معه‏!‏ ففتحوا البلد للعجز عن حفظه وتحصن أجناد الروم بالقلعة ودخل المسلمون وغنموا ما فيها وامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي وأكثروا القتل وأرسل ابن وثاب إلى آمد مائة وستين راحلة عليها رؤوس القتلى وأقام محاصرًا للقلعة‏.‏

ثم إن حسان بن الجراح الطائي سار في خمسة آلاف فارس من العرب والروم نجدة لمن بالرها فسمع ابن وثاب بقربه فسار إليه مجدًا ليلقاه قبل وصوله فخرج من الرها من الروم إلى حران فقاتلهم أهلها وسمع ابن وثاب الخبر فعاد مسرعًا فوقع على الروم فقتل منهم كثيرًا وعاد المنهزمون إلى الرها‏.‏

  ذكر غدر السناسنة وأخذ الحاج وإعادة ما أخذوه

في هذه السنة ورد خلق كثير من أذربيجان وخراسان وطبرستان وغيرها من البلاد يريدون الحج وجعلوا طريقهم على أرمينية وخلاط فوردوا إلى آني ووسطان فثار بهم الأرمن من تلك البلاد وأعانهم السناسنة وهم من الأرمن أيضًا إلا أنهم لهم حصون منيعة تجاور خلاط وهم صلح مع صاحب خلاط‏.‏

ولم تزل هذه الحصون بأيديهم منفردين بها إلا أنهم متعاهدون إلى سنة ثمانين وخمسمائة فملكها المسلمون منهم وأزالوهم عنها على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

فلما اتفقوا مع الأرمن من رعية البلاد أخذوا الحاج فقتلوا منهم كثيرًا وأسروا وسبوا ونهبوا الأموال وحملوا ذلك أجمع إلى الروم وطمع الأرمن في تلك البلاد فسمع نصر الدولة بن مروان الخبر فجمع العساكر وعزم على غزوهم فلما سمعوا ذلك ورأوا جده فيه راسله ملك السناسنة وبذل إعادة جميع ما أخذ أصحابه وإطلاق الأسرى والسبي فأجابهم إلى الصلح وعاد عنهم لحصانة قلاعهم وكثرة المضايق في بلادهم ولأنهم بالقرب من الروم فخاف أن يستنجدوهم ويمتنعوا بهم فصالحهم‏.‏

  ذكر الحرب بين المعز وزناتة

في هذه السنة اجتمعت زناتة بإفريقية وزحفت في خيلها ورجلها يريدون مدينة المنصورة فلقيهم جيوش المعز بن باديس صاحبها بموضع يقال له الجفنة قريب من القيروان فاقتتلوا قتالًا شديدًا وانهزمت عساكر المعز ففارقت المعركة وهم على حامية ثم عاودوا القتال وحرض بعضهم بعضًا فصبرت صنهاجة وانهزمت زناتة هزيمة قبيحة وقتل منهم عدد كثير وأسر خلق عظيم وتعرف هذه الوقعة بوقعة الجفنة وهي مشهورة لعظمها عندهم‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في رجب انقض كوكب عظيم غلب نوره على نور الشمس وشوهد في آخرها مثل التنين يضرب إلى السواد وبقي ساعة وذهب‏.‏

وفيها كانت ظلمة عظيمة اشتدت حتى أن إنسانًا كان لا يبصر جليسه وأخذ بأنفاس الخلق فلو تأخر انكشافها لهلك أكثرهم‏.‏

وفيها قبض على الوزير أبي سعد بن عبد الرحيم وزير جلال الدولة وهي الوزارة السادسة‏.‏

وفيها في رمضان توفي رافع بن الحسين بن مقن وكان حازمًا شجاعًا وخلف بتكريت ما يزيد على خمس مائة ألف دينار فملكها ابن أخيه خميس بن ثعلب وكان طريدًا في أيام عمه وحمل إلى جلال الدولة ثمانين ألف دينار فأصلح بها الجند وكانت يده قد قطعت لأن بعض عبيد بني عمه كان يشرب معه فجرى بينه وبين آخر خصومة فجردا سيفيهما فقام رافع ليصلح بينهما فضرب العبد يده فقطعها غلطًا ولرافع فيها شعر ولم تمنعه من قتال فقد عمل له كفًا أخرى يمسك بها العنان ويقاتل وله شعر جيد من ذلك قوله‏:‏ لها ريقة استغفر الله إنها ألذ وأشهى في النفوس من الخمر وصارم طرف لا يزايل جفنه ولم أر سيفًا قط في جفنه يفري فقلت لها والعيس تحدج بالضحى‏:‏ أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر سأنفق ريعان الشبيبة آنفًا على طلب العلياء أو طلب الأجر وفيها في صفر أمر القائم بأمر الله بترك التعامل بالدنانير المغربية وأمر الشهود أن لا يشهدوا في كتاب ابتياع ولا غيره يذكر فيه هذا الصنف من الذهب فعدل الناس إلى القادرية والسابورية والقاسانية‏.‏

  ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمائة

  ذكر الفتنة بين جلال الدولة وبارسطغان

في هذه السنة كانت الفتنة بين جلال الدولة وبين بارسطغان وهو من أكابر الأمراء ويلقب حاجب الحجاب‏.‏

وكان سبب ذلك أن جلال الدولة نسبه إلى فساد الأتراك والأتراك نسبوه إلى أخذ الأموال فخاف على نفسه فالتجأ إلى دار الخلافة في رجب من السنة الخالية‏.‏

وترددت الرسل بين جلال الدولة والقائم بأمر الله في أمره فدافع الخليفة عنه وبارسطغان يراسل الملك أبا كاليجار فأرسل أبو كاليجار جيشًا فوصلوا إلى واسط واتفق معهم عسكر واسط وأخرجوا الملك العزيز بن جلال الدولة فأصعد إلى أبيه وكشف بارسطغان القناع فاستتبع أصاغر المماليك ونادوا بشعار أبي كاليجار وأخرجوا جلال الدولة من بغداد فسار إلى أوانا ومعه البساسيري وأخرج بارسطغان الوزير أبا الفضل العباس بن الحسن بن فسانجس فنظر في الأمور نيابة عن الملك أبي كاليجار وأرسل بارسطغان إلى الخليفة يطلب الخطبة لأبي كاليجار فاحتج بعهود جلال الدولة فأكره الخطباء على الخطبة لأبي كاليجار ففعلوا‏.‏

وجرى بين الفريقين مناوشات وسار الأجناد الواسطيون إلى بارسطغان ببغداد فكانوا معه وتنقلت الحال بين جلال الدولة وبارسطغان فعاد جلال الدولة إلى بغداد ونزل بالجانب الغربي ومعه قرواش بن المقلد العقيلي ودبيس بن علي بن مزيد الأسدي وخطب لجلال الدولة به وبالجانب الشرقي لأبي كاليجار وأعان أبو الشوك وأبو الفوارس منصور بن الحسين بارسطغان على طاعة أبي كاليجار‏.‏

ثم سار جلال الدولة إلى الأنبار وسار قرواش إلى الموصل وقبض بارسطغان على ابن فسانجس فعاد منصور بن الحسين إلى بلده وأتى الخبر إلى بارسطغان بعود الملك أبي كاليجار إلى فارس ففارقه الديلم الذين جاؤوا نجدة له فضعف أمره فدفع ماله وحرمه إلى دار الخلافة وانحدر إلى واسط وعاد جلال الدولة إلى بغدا وأرسل البساسيري والمرشد وبني خفاجة في أثره فتبعهم جلال الدولة ودبيس بن علي بن مزيد فلحقوه بالخيزرانية فقاتلوه فسقط عن فرسه فأخذ أسيرًا وحمل إلى جلال الدولة فقتله وحمل رأسه وكان عمره نحو وسار جلال الدولة إلى واسط فملكها وأصعد إلى بغداد فضعف أمر الأتراك وطمع فيهم الأعراب واستولوا على إقطاعاتهم فلم يقدروا على كف أيديهم عنها وكانت مدة بارسطغان من حين كاشف جلال الدولة إلى أن قتل ستة أشهر وعشرة أيام‏.‏

  ذكر الصلح بين جلال الدولة وأبي كاليجار والمصاهرة بينهما

في هذه السنة ترددت الرسل بين جلال الدولة وابن أخيه أبي كاليجار سلطان الدولة في الصلح والاتفاق وزوال الخلف وكان الرسل أقضى القضاة أبا الحسن الماوردي وأبا عبد الله المردوستي وغيرهما فاتفقا على الصلح وحلف كل واحد من الملكين لصاحبه وأرسل الخليفة القائم بأمر الله إلى أبي كاليجار الخلع النفيسة ووقع العقد لأبي منصور بن أبي كاليجار على ابنة جلال الدولة وكان الصداق خمسين ألف دينار قاسانية‏.‏

  ذكر عدة حوادث

فيها توفي أبو القاسم علي بن الحسين بن مكرم صاحب عمان وكان جوادًا ممدحًا وقام ابنه مقامه‏.‏

وفيها توفي الأمير أبو عبد الله الحسين بن سلامة أمير تهامة باليمن وولي ابنه بعده فعصى عليه خادم كان لوالده وأراد أن يملك فجرى بينهما حروب كثيرة تمادت أيامها ففارق أهل تهامة أوطانهم إلى غير مملكة ولد الحسين هربًا من الشر وتفاقم الأمر‏.‏

وفيها توفي مهيار الشاعر وكان مجوسيًا فأسلم سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وصحب الشريف الرضي وقال له أبو القاسم بن برهان‏:‏ يا مهيار قد انتقلت بإسلامك في النار من زاوية إلى زاوية‏!‏ قال‏:‏ كيف قال‏:‏ لأنك كنت مجوسيًا فصرت تسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شعرك‏.‏

وفيها توفي أبو الحسين القدوري الفقيه الحنفي والحاجب أبو الحسين هبة الله بن الحسين المعروف بابن أخت الفاضل وكان من أهل الأدب وله شعر جيد وأبو علي بن أبي الريان بمطيراباذ ومولده سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وقد مدحه الرضي وابن نباتة وغيرهما‏.‏

وفيها عاود المعز بن باديس حرب زناتة بإفريقية فهزمهم وأكثر القتل فيهم وخرب مساكنهم وقصورهم‏.‏

وفي شعبان توفي أبو علي بن سينا الحكيم الفيلسوف المشور صاحب التصانيف السائرة على مذاهب الفلاسفة وكان موته بأصبهان وكان يخدم علاء الدولة أبا جعفر بن كاكويه ولا شك أن أبا جعفر كان فاسد الاعتقاد فلهذا أقدم ابن سينا على تصانيفه في الإلحاد والرد على

  ثم دخلت سنة تسع وعشرين وأربعمائة

  ذكر محاصرة الأبخاز تفليس وعودهم عنها

في هذه السنة حصر ملك الأبخاز مدينة تفليس وامتنع أهلها عليه فأقام عليهم محاصرًا ومضيقًا فنفدت الأقوات وانقطعت الميرة فأنفذ أهلها إلى أذربيجان يستنفرون المسلمين ويسألونهم إعانتهم فلما وصل الغز إلى أذربيجان وسمع الأبخاز بقربهم ومما فعلوا بالأرمن رحلوا عن تفليس مجفلين خوفًا‏.‏

ولما رأى وهسوذان صاحب أذربيجان قوة الغز وأنه لا طاقة له بهم لاطفهم وصاهرهم واستعان بهم وقد تقدم ذكر ذلك‏.‏

  ذكر ما فعله طغرلبك بخراسان

في هذه السنة دخل ركن الدين أبو طالب طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق مدينة نيسابور مالكًا لها‏.‏

وكان سبب ذلك أن الغز السلجقية لما ظهروا بخراسان أفسدوا ونهبوا وخربوا البلاد وسبوا على ما ذكرناه وسمع الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين الخبر فسير إليهم حاجبه سباشي في ثلاثين ألف مقاتل‏!‏ فسار إليهم من غزنة فلما بلغ خراسان ثقل على ما سلم من البلد

بالإقامات فخرب السالم من تخريب الغز فأقام مدة سنة على المدافعة والمطاولة لكنه كان يتبع أثرهم إذا بعدوا ويرجع عنهم إذا أقبلوا استعمالًا للمحاجزة وإشفاقًا من المحاربة حتى إذا كان في هذه السنة وهو بقرية بظاهر سرخس والغز بظاهر مرو مع طغرلبك وقد بلغهم خبره أسروا إليه وقاتلوه يوم وصلوا فلما جنهم الليل أخذ سباشي ما خف من مال وهرب في خواصه وترك خيمه ونيرانه على حالها قيل فعل ذلك مواطأة للغز على الهزيمة فلما أسفر الصبح عرف الباقون من عسكره خبره فانهزموا واستولى الغز على ما وجدوه في معسكرهم من سوادهم وقتلوا من الهنود الذي تخلفوا مقتلة عظيمة‏.‏

وأسرى داود أخو طغرلبك وهو والد السلطان ألب أرسلان إلى نيسابور وسمع أبو سهل الحمدوني ومن معه بها ففارقوها ووصل داود ومن معه إليها فدخلوها بغير قتال ولم يغيروا شيئًا من أمورها ووصل بعدهم طغرلبك ثم وصلت إليهم رسل الخليفة في ذلك الوقت وكان قد أرسل إليهم وإلى الذين بالري وهمذان وبلد الجبل ينهاهم عن النهب والقتل والإخراب ويعظهم فأكرموا الرسل وعظموهم وخدموهم‏.‏

وخاطب داود طغرلبك في نهب البلد فمنعه فامتنع واحتج بشهر رمضان فلما انسلخ رمضان صمم داود على نهبه فمنعه طغرلبك واحتج علهي برسل الخليفة وكتابه فلم يلتفت داود إليه وقوي عزمه على النهب فأخرج طغرلبك سكينًا وقال له‏:‏ والله لئن نهبت شيئًا لأقتلن نفسي‏!‏ فكف عن ذلك وعدل إلى التقسيط فقسط على أهل نيسابور نحو ثلاثين ألف دينار وفرقها في أصحابه‏.‏

وأقام طغرلبك بدار الإمارة وجلس على سرير الملك مسعود وصار يقعد للمظالم يومين في الأسبوع على قاعدة ولاة خراسان وسير أخاه داود إلى سرخس فملكها ثم استولوا على سائر بلاد خراسان سوى بلغ وكانوا يخطبون للملك مسعود على سبيل المغالطة‏.‏

وكانوا ثلاثة أخوة‏:‏ طغرلبك وداود وبيغو وكان ينال واسمه إبراهيم أخا طغرلبك وداود لأمهما ثم خرج مسعود من غزنة وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر مخاطبة جلال الدولة بملك الملوك

في هذه السنة سأل جلال الدولة الخليفة القائم بأمر الله ليخاطب بملك الملوك فامتنع ثم أجاب إليه إذا أفتى الفقهاء بجوازه فكتب فتوى إلى الفقهاء في ذلك فأفتى القاضي أبو الطيب الطبري والقاضي أبو عبد الله الصيمري والقاضي ابن البيضاوي وأبو القاسم الكرخي بجوازه وامتنع منه قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي وجرى بينه وبين من أفتى بجوازه وكان الماوردي من أخص الناس بجلال الدولة وكان يتردد إلى دار المملكة كل يوم فلما أفتى بهذه الفتيا انقطع ولزم بيته خائفًا وأقام منقطعًا من شهر رمضان إلى يوم عيد النحر فاستدعاه جلال الدولة فحضر خائفًا فأدخله وحده وقال له‏:‏ قد علم كل أحد أنك من أكثر الفقهاء مالًا وجاهًا وقربًا منا وقد خالفتهم فيما خالف هواي ولم تفعل ذلك إلا لعدم المحاباة منك واتباع الحق وقد بان لي موضعك من الدين ومكانك من العلم وجعلت جزاء ذلك إكرامك بأن أدخلتك إلي وجعلت أذن الحاضرين إليك ليتحققوا عودي إلى ما تحب‏.‏

فشكره ودعا له وأذن لكل من حضر بالخدمة والانصراف‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة قتل شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس صاحب حلب قتله الدزبري وعساكر مصر وملكوا حلب‏.‏

وفيها أنكر العلماء على أبي يعلى بن الفراء الحنبلي ما ضمنه كتابه من صفات الله سبحانه وتعالى المشعرة بأنه يعتقد التجسم وحضر أبو الحسن القزويني الزاهد بجامع المنصور وتكلم في ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏.‏

وفيها صالح ابن وثاب النميري صاحب حران الروم الذين بالرها لعجزه عنهم وسلم إليهم ربض الرها وكان تسلمه على ما ذكرناه أولًا فنزلوا من الحصن الذي للبلد إليه وكثر الروم بها وخاف المسلمون على حران منهم وعمر الروم الرها العمارة الحسنة وحصنوها‏.‏

وفيها هادن المستنصر بالله الخليفة العلوي صاحب مصر ملك الروم وشرط عليه إطلاق خمسة آلاف أسير وشرط الروم عليه أن يعمروا بيعة قمامة فأرسل الملك إليها من عمرها وأخرج مالًا جليلًا‏.‏

و في هذه السنة سارت عساكر المعز بن باديس بإفريقية إلى بلد الزاب ففتحوا مدينة تسمى بورس وقتلوا من البربر خلقًا كثيرًا وفتح من بلاد زناتة قلعة تسمى كروم‏.‏

وفيها توفي إسحاق بن إبراهيم بن مخلد أبو الفضل المعروف بابن الباقرحي في ربيع الآخر‏.‏

  ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمائة

  ذكر وصول الملك مسعود إلى خراسان

وإجلاء السلجقية عنها في صفر من هذه السنة وصل الملك مسعود إلى بلخ من غزنة وزوج ابنه من ابنة بعض ملوك الخانية كان يتقي جانبه وأقطع خوارزم لشاه ملك الجندي فسار إليها وبها خوارزمشاه إسماعيل بن التوتناش فجمع أصحابه ولقي شاه ملك وقاتله ودامت الحرب بينهما مدة شهر وانهزم إسماعيل والتجأ إلى طغرلبك وأخيه داود السلجقية وملك شاه ملك خوارزم‏.‏

وكان مسير مسعود من غزنة أول سنة ثمان وعشرين وسبب خروجه ما وصل إليه من أخبار الغز وما فعلوه بالبلاد وأهلها من الإخراب والقتل والسبي والاستيلاء وأقام ببلخ حتى أراح واستراح وفرغ من أمر خوارزم والخانية ثم أمد سباشي الحاجب بعسكر ليتقوى بهم ويهتم بأمر الغز واستئصالهم فلم يكن عنده من الكفاية ما يقهرهم بل أخلد إلى المطاولة التي هي عادته‏.‏

وسار مسعود بن سبكتكين من بلخ بنفسه وقصد سرخس فتجنب الغز لقاءه وعدلوا إلى المراوغة والمخاتلة وأظهروا العزم على دخول المفازة التي بين مرو وخوارزم فبينما عساكر مسعود تتبعهم وتطلبهم إذ لقوا طائفة منهم فقاتلوهم وظفروا بهم وقتلوا منهم‏.‏

ثم إنه واقعهم بنفسه في شعبان من هذه السنة وقعة استظهر فيها عليهم فأبعدوا عنه ثم عاودوا القرب منه بنواحي مرو فواقعوهم وقعة أخرى قتل منهم فيها نحو ألف وخمسمائة قتيل وهرب الباقون فدخلوا البرية التي يحتمون بها‏.‏

وثار أهل نيسابور بمن عندهم منهم فقتلوا بعضًا وانهزم الباقون إلى أصحابهم بالبرية وعدل مسعود إلى هراة ليتأهب في العساكر للمسير خلفهم وطلبهم أين كانوا فعاد طغرلبك إلى الأطراف النائية عن مسعود فنهبها وأثخن فيها وكان الناس قد تراجعوا فملأوا أيديهم من الغنائم فحينئذ سار مسعود يطلبه فلما قاربه انزاح طغرلبك من بين يديه إلى أستوا وأقام بها وكان الزمان شتاء ظنًا منه أن الثلج والبرد يمنع عنه فطلبه مسعود إليها ففارقه طغرلبك وسلك الطريق على طوس واحتمى بجبال منيعة ومضايق صعبة المسلك فسير مسعود في طلبه وزيره أحمد بن محمد بن عبد الصمد في عساكر كثيرة فطوى المراحل إليه جريدة فلما رأى طغرلبك قربه منه فارق مكانه إلى نواحي أبيورد‏.‏

وكان مسعود قد سار ليقطعه عن جهة إن أرادها فلقي طغرلبك مقدمته فواقعوهم فانتصروا عليه واستأمن من أصحابه جماعة كثيرة ورأى الطلب له من كل جانب فعاود دخول المفازة إلى خوارزم وأوغل فيها‏.‏

فلما فارق الغز خراسان قصد مسعود جبلًا من جبال طوس منيعًا لا يرام وكان أهله قد وافقوا الغز وأفسدوا معهم فلما فارق الغز تلك البلاد تحصن هؤلاء بجبلهم ثقة منهم بحصانته وامتناعه فسرى مسعود إليهم جريدة فلم يرعهم إلا وقد خالطهم فتركوا أهلهم وأموالهم وصعدوا إلى قلة الجبل واعتصموا بهال وامتنعوا وغنم عسكر مسعود أموالهم وما ادخروه‏.‏

ثم أمر مسعود أصحابه أن يزحفوا إليهم في قلة الجبل وباشر هو القتال بنفسه فزحف الناس إليهم وقاتلوهم قتالًا لم يروا مثله وكان الزمان شتاء والثلج على الجبل كثيرًا فهلك من العسكر في مخارم الجبل وشعابه كثير ثم إنهم ظفروا بأهله وأكثروا فيهم القتل والأسر وفرغوا منهم وأراحوا المسلمين من شرهم‏.‏

وسار مسعود إلى نيسابور في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ليريح ويستريح وينتظر الربيع ليسير خلف الغز ويطلبهم في المفاوز التي احتموا بها‏.‏

وكانت هذه الوقعة وإجلاء الغز عن خراسان سنة إحدى وثلاثين على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر ملك أبي الشوك مدينة خولنجان

كان حسام الدولة أبو الشوك قد فتح قرميسين من أعمال الجبل وقبض على صاحبها وهو من الأكراد القوهية فسار أخوه إلى قلعة أرنبة فاعتصم بها من أبي الشوك وجعل أصحابه في مدينة خولنجان يحفظونها منه أيضًا‏.‏

فلما كان الآن سير أبو الشوك عسكرًا إلى خولنجان فحصروها فلم يظفروا منها بشيء فأمر العسكر فعاد فأمن من في البلد بعود العسكر عنه‏.‏

ثم جهز عسكرًا آخر جريدة لم يعلم بهم أحد وسيرهم ليومهم وأمرهم بنهب ربض قلعة أرنبة وقتل من ظفروا به والإتمام لوقتهم إلى خولنجان ليسبقوا خبرهم إليها ففعلوا ذلك ووصلوا إليها ومن بها غير متأهبين فاقتتلوا شيئًا من قتال ثم استسلم من بالمدينة إليهم فتسلموها وتحصن من كان بها من الأجناد في قلعة في وسط البلد فحصروها أصحاب أبي الشوك فملكوها في ذي القعدة من هذه السنة‏.‏

  ذكر الخطبة العباسية بحران والرقة

في هذه السنة خطب شبيب بن وثاب النميري صاحب حران والرقة للإمام القائم بأمر الله وقطع خطبة المستنصر بالله العلوي‏.‏

وكان سببها أن نصر الدولة بن مروان كان قد بلغه عن الدزبري نائب العلويين بالشام أنه يتهدده ويريد قصد بلاده فراسل قرواشًا صاحب الموصل وطلب منه عسكرًا وراسل شبيبًا النميري يدعوه إلى الموافقة ويحذره من المغاربة فأجابه إلى ذلك وقطع الخطبة العلوية وأقام الخطبة العباسية فأرسل إليه الدزبري يتهدده ثم أعاد الخطبة العلوية بحران في ذي الحجة من السنة‏.‏

فيها توفي الملك أبو علي الحسين بن الحسن الرخجي وكان وزيرًا لملوك بني بويه ثم ترك الوزارة وكان في عطلته يتقدم على الوزراء‏.‏

وفيها أيضًا توفي أبو الفتوح الحسن بن جعفر العلوي أمير مكة‏.‏

وفيها توفي الوزير أبو القاسم بن ماكولا محبوسًا بهيت وكان مقامه في الحبس سنتين وخمسة أشهر ومولده سنة خمس وستين وثلاثمائة وكان وزير جلال الدولة وهو والد الأمير أبي نصر مصنف كتاب الإكمال في المؤتلف والمختلف وكان جلال الدولة سلمه إلى قرواش فحبسه بهيت‏.‏وفيها سقط الثلج ببغداد لست بقين من ربيع الأول فارتفع على الأرض شبرًا ورماه الناس عن السطوح إلى الشوارع وجمد الماء ستة أيام متوالية وكان أول ذلك الثالث والعشرين من كانون الثاني‏.‏

وتو في هذه السنة أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الأصبهاني الحافظ وأبو الرضا الفضل بن منصور بن الظريف الفارقي الأمير الشاعر له ديوان حسن وشعر جيد فمنه‏:‏ ومخطف الخصر مطبوع على صلف عشقته ودواعي البين تعشقه وقد تسامح قلبي في مواصلتي على السلو ولكن من يصدقه أهابه وهو طلق الوجه مبتسم وكيف يطمعني في السيف رونقه

  ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة

في هذه السنة فتح الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين قلعة بخراسان كانت بيد الغز وقتل فيها جماعة منهم وكانت بينه وبينهم وقعات أجلت عن فراقهم خراسان إلى البرية وقد ذكرناه سنة ثلاثين‏.‏

  ذكر ملك الملك أبي كاليجار البصرة

في هذه السنة سير الملك أبو كاليجار عساكره مع العادل أبي منصور بن مافنة إلى البصرة فملكها في صفر وكانت بيد الظهير أبي القاسم وقد ذكرنا أنه وليها بعد بختيار وأنه عصى على أبي كاليجار مرة وصار في طاعة جلال الدولة ثم فارق طاعته وعاد إلى طاعة الملك أبي كاليجار وكان يترك محاقته ومعارضته فيما يفعله ويضمن الظهير أن يحمل إلى أبي كاليجار كل سنة سبعين ألف دينار وكثرت أمواله ودامت أيامه وثبت قدمه وطار اسمه‏.‏

واتفق أنه تعرض إلى أملاك أبي الحسن بن أبي القاسم بن مكرم صاحب عمان وأمواله وكاتب أبو الحسن الملك أبا كاليجار وبذل له زيادة ثلاثين ألف دينار في ضمان البصرة كل سنة وجرى الحديث في قصد البصرة فصادف قلبًا موغرًا من الظهير فحصلت الإجابة وجهز الملك العساكر مع العادل أبي منصور فسار إليها وحصرها‏.‏

وسارت العساكر من عمان أيضًا في البحر وحصرت البصرة وملكت وأخذ الظهير وقبض عليه وأخذ جميع ماله وقرر عليه مائة ألف وعشرة آلاف دينار يحملها في أحد عشر يومًا بعد تسعين ألف دينار أخذت منه قبلها ووصل الملك أبي كاليجار إلى البصرة فأقام بها ثم عاد إلى الأهواز وجعل ولده عز الملوك فيها ومعه الوزير أبو الفرج بن فسانجس ولما سار أبو كاليجار عن البصرة أخذ معه الظهير إلى الأهواز‏.‏